حلم ومدرسة

الحلم.  

 تراءى حلم لعثمان، الذي كان في السادسة من عمره.

    لم يكن ذلك الكتاب له (كان بالإمكان أن يكون أنيسه المفضل)، وانما هو كتاب أخر غير مألوف لديه اطلاقا. من دون شك يحمل الكتاب داخله قصة مرعبة هي جزء من كابوسه الدائم الذي عصفت به أهواله والتي واصلت تعذيبه، ذلك الكابوس الذي يتراءى له كل ليلة.

 ولكنه عندما استيقظ لم يكن بوسعه أن يصرخ كالعادة.

   وفي الحلم، بدت أمه ( تيهيا )، الزوجة الأرملة التي استثمرت كل تعبها في رعاية  ولديها التوأمين اليتيمين. وكانت واقفة في مطبخ فخم حاملة سكينا في يدها اليمنى، وقد ارتسمت بطابع من تريد المقاومة. وكان عثمان قد ظن أنها في مطبخ سيدتها التي تعمل لديها كخادمة.

  ولكن مظهر المطبخ بدا مختلفا وطلاء الجدران أيضا بدا بلون رمادي باهت، وترتيب الأواني على الرفوف كان مغايرا تماما لما كان قد شاهده في دار السيدة زينب.


  عندما رأى كرسيه المتحرك، بدا له الأمر أنه كان موجودا في المطبخ مع والدته حينها. بدا  أنهما  وحدهما الموجودان  في المطبخ فحسب.

    سألته أمه، بعد أن روى لها قصة الحلم بتلعثم شديد:

-    هل كانت السيدة زينب معنا في المطبخ؟ وهل شقيقك وجد أيضا معنا في غرفة المطبخ؟

حار عثمان في الرد, فلم يكن له مشهد المطبخ في الرؤيا تاما:


-     لا، لم أشا...هد...هما في المطبخ، غير أنني كنت أحمل كتا...ب  غريب جميل ورائع، لا أدري لمن يكون.

   كان هناك كتاب، كبير الحجم، ربما يكون مجلدا، له غلاف جلدي سميك أسود اللون بتمامه. وعلى الرغم من غرابة الكتاب. فقد كانت الحروف المجهولة تلك التي على ظهر الغلاف جميلة ولامعة. تتألق كالمجوهرات بلون ذهبي وأخرى لها لون النحاس الأحمر.

    ساور عثمان شعور فضولي اخترق قلبه, وظنا منه يقينا بأنه كتاب يحتوي على أسرار عظيمة، تروي ظمأ روحه وبلسم يشفي جروح قلبه الذي هيئت له الظروف أن يعاني من صعوبة الحصول على التعليم. وفيما هو يعانقه (الكتاب)، تغايرت ألوان الحروف وأنبهر بألوان قزحية تتألق تماما كأنها مجوهرات ثمينة وتلمع جوانبها إثر التقاطها للضوء.

   عندما فتح عثمان المجلد انبهر، وتعالت أصوات من داخل "فيلا" السيدة زينب وأشتد الصراخ وبدا الصوت القوي يشتد ويقترب من المطبخ. كانت  هناك خمسة أو سبعة تدرجات لونية متوهجة بالحيوية، جعلت ولأول مرة عثمان يبدو مسرورا و مبتهجا غاية في السرور و البهجة. و كأنه وجد ما كان يأمل به و يفتقده. وأنغمس يتصفح صفحات الكتاب ويحاول تهجئة حروفه بفرح غامر واستحوذت عليه لحظته.

  لم يشعر عثمان بأي شيء على الاطلاق من حوله وأخد يحدث نفسه:

" اوه ، ما أجم----ل هذا !"

 ولم يكن يكترث بما يحدث في المطبخ ولم يعر أدنى اهتمام للصراخ المتعالي وسط دار السيدة زينب.

-    اتركيه وشأنه لا دخل لك في هذا كله، لم يفعل شيئا معيبا.

  تلفظت "تيهيا" بتلك الكلمات محاولة الدفاع عن ابنها، وقفت بينه وبين قبضة السيدة زينب، يبدوا ان الكتاب يخص السيدة زينب، حيث بدت السيدة زينب مندفعة بفعل حقد شيطاني غداه الكِبْر تحاول انتزاع الكتاب من بين أحضان عثمان. ففي نهاية المطاف بدأت السيدة زينب تتفكك على مهل من أحد طرفيها وتحولت الى شكل أفعى. كانت أفعى حمراء تتلوى مستبدة وقد تملكها غضب الأبالسة.

   بينما "تيهيا" وفي نفس الوقت كانت تمسك سكينا بقوة يدها اليمنى تحاول الانقضاض على رأس الأفعى الحمراء لتفصله عن جسده.

   من غرفة الضيوف تناهى صوت مذياع وأصوات أطفال يغنون أناشيد حماسية. و في الركن القصي من الفيلا كانت هناك خزانة مليئة بكتب نفيسة، ترسل شعاعا مغريا للبصر.

  قالت السيدة "تيهيا" مخاطبة الافعى الضخمة الحمراء :

-    أرجو أن تنظري بعناية ومحبة الى حال ولدي المسكين. ما أشد ذكائه وما أعظم شغفه للتعلم واكتشاف المجهول. أليس هذا أكبر عمل مقدس ينشد المرء فعله؟

  لقد كان الكتاب يخص السيدة زينب، لقد ألهم فؤاد عثمان وأستبد به أشد العجب.

 واصلت أم عثمان الحديث قائلة:

-    هذا ليس عادلا, يحق لك أن تتعلم يا بني. ستنتقي يوما ما ثمارا جيدة، اعتقادا مني ووعدا سوف تنال المبتغى.

عند هذا الحد استيقظ عثمان من نومه.

  لم يكن يفهم المغزى من ظهور السيدة زينب كعدوة له ولأمه في الحلم، وبشكل خاص لا يدري لما يحمل كتابا مبهما يخصها، غير أنه أحس بفرح وسعادة إثر حصوله عليه وتصفحه.

   عندما فرغ عثمان من سرد قصة الحلم، غمر صمت رهيب المكان، كانت السيدة "تيهيا" قد فهمت اللغز, كان اللغز مدهشا بدقته ووضوحه.

 انها أم لتوأمين يتيمين مقعدين على كرسي متحرك، توفي زوجها وقد مر على دفنه أربعة أعوام، هي الأن مهتمة بولديها وتعمل خادمة في منزل السيدة زينب، غير ان ما تتقاضاه أجرا مقابل خدماتها لا يكفيها قوت يومها، ويبقى مسعاها الوحيد هو ان يلتحق أبنائها الى صف المدرسة الابتدائية وهي تناضل من أجل أن تحقق لهم ذلك.

  انها على وشك أن تطرد من عملها، حيث وبختها سيدتها مرارا وتكرارا في الآونة الاخيرة على تأخرها الدائم عن العمل. وكانت حينها السيدة " تيهيا" منشغلة كل الوقت بأمر مرض ولديها  في هذه الأيام الأخيرة . 
                   
                                                                                                                            بنسركاو، اكادير

إرسال تعليق

طفولتنا إزدهارنا ومستقبلنا

أحدث أقدم